Bsalim - Centre Bsalim 394 - Lebanon

“الأمير ميشكين” الذي لن يأتي

في عالمٍ يزدحم بالتناقضات، حيث تتصارع القيم مع المصالح، وتتلاشى الأحلام أمام جدران الواقع، يبرز المشهد السياسي اللبناني كمسرحٍ مفتوحٍ على كل الاحتمالات. هنا، حيث تختلط الأوراق بين الخير والشر، بين الإصلاح والفساد، بين الأمل والإحباط، كتبت القاضي أماني سلامة في العام 2018 مقالها الشهير ” لو كنت ميشال عون”، لم يكن ذلك المقال مجرد نقدٍ لاذعٍ أو تذكيرٍ بوعودٍ ضائعة، بل كانت رسالة أملٍ موجهة إلى رجلٍ آمنت بأنه قد يصغي.

لو كان فيودور دوستويفسكي، بيننا اليوم، لوجد في لبنان مادةً خصبةً لروايةٍ تفيض بالتناقضات الإنسانية والسياسية. لرأى في ميشال عون شخصيةً الرجل الذي يحمل تطلعاتٍ كبيرةً لكنه يعجز عن تحمّل أثقالها، ولرأى في رئيس مجلس النواب، صورةً من “المقامر”، الذي أتقن لعبة السياسة لعقودٍ دون أن يخسر رهانه، لكن دوستويفسكي كان سيبحث أيضًا عن “الأمير ميشكين”، السياسي البريء الذي يحمل شجاعة الإيمان بالتغيير، لكنه يُسحق في النهاية تحت وطأة الفساد والواقع المرير.

في لبنان، لا يزال “الأمير ميشكين” غائبًا، لكن القاضي أماني سلامة كانت تحمل شيئًا من براءته وشجاعته حين كتبت مقالها، لم تكتب لأنها تبحث عن الشهرة أو لأنها تريد إثبات جرأتها، بل كتبت لأنها كانت تؤمن بأن ميشال عون، الرئيس الذي انتُخب بعد سنواتٍ من الفراغ الرئاسي، قد يصغي، كانت تعلم أن الرجل الذي حمل شعار “الإصلاح والتغيير” إلى قصر بعبدا لا يزال يحمل في داخله شيئًا من الأمل، وأنه قد يكون قادرًا على أن يسير على خطى فؤاد شهاب والياس سركيس، الرجلين اللذين دخلا التاريخ من بابه العريض بفضل إنجازاتهما في بناء دولة المؤسسات.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا كتبت أماني سلامة إلى ميشال عون، ولم تكتب إلى رئيس مجلس النواب، الرجل الذي يمسك بمفاتيح السلطة التشريعية طيلة عقد من الزمن ويُعتبر الحاكم الفعلي للعبة السياسية في لبنان؟ فالجواب بسيطٌ ومُعقّد في الوقت نفسه: لأنها كانت تعلم أن عون قد يصغي، بينما بري، بكل ما يمثله من ثوابت سياسية، لم يعد يُنظر إليه إلا كجزءٍ من المشكلة، وليس كحلٍ لها.

وهنا يبرز سؤال أكثر أهمية: لماذا لم نجد أي قاضٍ آخر في لبنان كتب مقالًا بعنوان “لو كنت نبيه بري”؟، هل لأنهم يعلمون أن الرسالة ستضيع في متاهات المصالح السياسية؟، أم لأنهم يدركون أن النقد في وجه من لا يسمع إلا نفسه هو مجرد نفخٍ في رمادٍ لا نار فيه؟، أم أن القضاة في لبنان يدركون جيدًا أن مخاطبة ميشال عون ممكنة، لكن مخاطبة نبيه بري، الذي يمسك بمفاتيح اللعبة، هي مغامرة غير محسوبة العواقب؟

في مقالها، وضعت القاضي سلامة خريطة طريقٍ للإصلاح، من استقلالية القضاء إلى مكافحة الفساد، من ضبط الحدود إلى تنظيم ملف النازحين، من معالجة أزمة النفايات إلى إعادة الاعتبار للهوية الوطنية. كانت تعلم أن هذه التحديات تقع في صلب مسؤولية السلطة التشريعية، لكنها اختارت أن تخاطب الرئيس لأنها كانت تؤمن بأنه قد يكون قادرًا على تحريك المياه الراكدة.

لكنّ الصمت الذي ساد بعد مقالها، وغياب أي ردّ فعلٍ جديٍ من قبل المؤسسات التشريعية والتنفيذية، يؤكدان أن النقد في لبنان يُمارس انتقائيًا. فبينما يُوجّه النقد إلى من يمكنه أن يصغي، يُترك من يمسك بمفاتيح السلطة الحقيقية دون مساءلة.

القاضي أماني سلامة، بجرأتها وشجاعتها، كانت تحاول أن تكسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها لبنان منذ عقود. كانت تحاول أن توقظ الضمير الوطني، وأن تذكر الجميع بأن الإصلاح ليس مجرد شعاراتٍ تُرفع في الحملات الانتخابية، بل هو مسؤوليةٌ تاريخيةٌ تقع على عاتق كل من يصل إلى موقعٍ قيادي. لكنّ الصمت الذي ساد بعد مقالها، وغياب أي تحركٍ جديٍ نحو الإصلاح، يؤكدان أن لبنان لا يزال يدور في دوامة الأزمات بلا أفقٍ للخروج.

اليوم، وبعد أكثر من ست سنوات على مقال القاضي سلامة، لا يزال ما كتبته ساري المفعول في ظل انتخاب الرئيس جوزيف عون.

بل يمكننا اليوم أن نُعنون المقال نفسه بعنوان جديد: “لو كنت جوزيف عون”، لأن التحديات نفسها لا تزال قائمة، والطموحات بالإصلاح لا تزال تصطدم بجدران المصالح السياسية.

فهل سيصغي أحدٌ إلى تلك الرسائل، أم أننا سنظل ننتظر “الأمير ميشكين” الذي لن يأتي؟.

المحامي رالف عيد

Leave a comment